سبح اسم ربك الأعلى . الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثآء أحوى }
والتسبيح هو التمجيد والتنزيه واستحضار معاني الصفات الحسنى لله ، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضاتها وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالقلب والشعور . وليست هي مجرد ترديد لفظ : سبحان الله! . . و { سبح اسم ربك الأعلى } . . تطلق في الوجدان معنى وحالة يصعب تحديدها باللفظ ، ولكنها تتذوق بالوجدان . وتوحي بالحياة مع الإشراقات المنبثقة من استحضار معاني الصفات .
{ الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى } . .
وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة في كل شيء في هذا الوجود؛ يشهد بها كل شيء في رحاب الوجود . من الكبير إلى الصغير . ومن الجليل إلى الحقير . . كل شيء مسوى في صنعته ، كامل في خلقته . معد لأداء وظيفته . مقدر له غاية وجوده ، وهو ميسر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق . . وجميع الأشياء مجتمعة كاملة التناسق ، ميسرة لكي تؤدي في تجمعها دورها الجماعي؛ مثلما هي ميسرة فرادى لكي تؤدي دورها الفردي .
الذرة بمفردها كاملة التناسق بين كهاربها وبروتوناتها وإلكتروناتها ، شأنها شأن المجموعة الشمسية
{ والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى }
والمرعى كل نبات . وما من نبات إلا وهو صالح لخلق من خلق الله . فهو هنا أشمل مما نعهده من مرعى أنعامنا . فالله خلق هذه الأرض وقدر فيها أقواتها لكل حي يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها ، أو يطير في جوها
{ سنقرئك فلا تنسى إلا ما شآء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى . فذكر إن نفعت الذكرى } . .
وتبدأ البشرى برفع عناء الحفظ لهذا القرآن والكد في إمساكه عن عاتق الرسول صلى الله عليه وسلم : { سنقرئك فلا تنسى } . . فعليه القراءة يتلقاها عن ربه ، وربه هو المتكفل بعد ذلك بقلبه ، فلا ينسى ما يقرئه ربه .وهي بشرى لأمته من ورائه ، تطمئن بها إلى أصل هذه العقيدة . فهي من الله . والله كافلها وحافظها في قلب نبيها . وهذا من رعايته سبحانه ، ومن كرامة هذا الدين عنده ، وعظمة هذا الأمر في ميزانه .
{ إلا ما شاء الله }
فهو الاحتراس الذي يقرر طلاقة المشيئة الإلهية ، بعد الوعد الصادق بأنه لا ينسى . ليظل الأمر في إطار المشيئة الكبرى ، ويظل التطلع دائماً إلى هذه المشيئة حتى فيما سلف فيه وعد منها . ويظل القلب معلقاً بمشيئة الله حياً بهذا التعلق أبداً . .
{ إنه يعلم الجهر وما يخفى } . . وكأن هذا تعليل لما مر في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء . . فكلها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى؛ ويطلع على الأمر من جوانبه جميعاً ، فيقرر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعاً .
والبشرى الثانية الشاملة :
{ ونيسرك لليسرى } . .
بشرى لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم وبشرى لأمته من ورائه . وتقرير لطبيعة هذا الدين ، وحقيقة هذه الدعوة ، ودورها في حياة البشر ، وموضعها في نظام الوجود . . وإن هاتين الكلمتين : { ونيسرك لليسرى } ، لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة ، وحقائق هذا الوجود أيضاً . فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطعبية هذا الوجود . الوجود الخارج من يد القدرة في يسر . السائر في طريقه بيسر . المتجه إلى غايته بيسر . فهي انطلاقة من نور؛ تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود .
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمره . . ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت عنه عائشة رضي الله عنها وكما قالت عنه : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته ألين الناس ، بساماً ضحاكاً » وفي صحيح البخاري : « كانت الأمة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت »!
وفي هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس والطعام والفراش وغيرها ما يعبر عن اختيار اليسر وقلة التكليف ألبتة .
وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها صفحات من السماحة واليسر والهوادة واللين والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعاً .
وهذا مثل من علاجه للنفوس ، يكشف عن طريقته صلى الله عليه وسلم وطبيعته :
» جاءه أعرابي يوماً يطلب منه شيئاً فأعطاه . قال له :« أحسنت إليك؟ » قال الأعرابي : لا . ولا أجملت! فغضب المسلمون ، وقاموا إليه؛ فأشار إليهم أن كفوا . ثم دخل منزله ، وأرسل إلى الأعرابي ، وزاده شيئاً . ثم قال : « أحسنت إليك؟ » قال : نعم . فجزاك الله من أهل ومن عشيرة خيراً . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك » قال : نعم . فلما كان الغداة جاء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن هذا الأعرابي قال ما قال ، فزدناه ، فزعم أنه رضي . أكذلك؟ » فقال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً . فقال صلى الله عليه وسلم « إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فتبعها الناس ، فلم يزيدوها إلا نفوراً ، فناداهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها وأعلم . فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض ، فردها هوناً هوناً ، حتى جاءت واستناخت ، وشد عليها رحلها ، واستوى عليها . وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار » .
فهكذا كان أخذه صلى الله عليه وسلم للنفوس الشاردة . بهذه البساطة ، وبهذا اليسر